ما هي تلك المعركة التي أنهت الوجود الرومي في الشام؟
تغيرت الخريطة الحربية في الشام فـ صارت الجيوش الإسلامية الخمسة تحقق انتصارات كبيرة على الروم وهذا ما حدث في أجنادين، وكذلك في مرج الصُّفر وفي فحل و بيسان و بعد موقعة فحل بيسان بدأ المسلمون يتقدمون فاستطاعوا فتح دمشق وهي عاصمة الشام، ثم استطاعوا فتح حِمص أى بدأ المسلمون يسيطرون على الشام فلم يعد أمام هِرقل إلا أن يرسل بأكبر جيش في جُعبته ، فأرسل جيشاً ضخماً تتراوح التقديرات فيه بين مائة ألف وأربعمائة ألف ،لكن المُختار من هذه الأعداد هو أنهم كانوا مائتي ألف.
ماهى خطة هرقل وكيف تم تقسيم هذا الجيش الكبير ؟
كانت الإمبراطورية البيزنطية تحكم عدداً من الشعوب فتُجند منهم ، فكان الجيش البيزنطي .. هذا الجيش العرمرم الذي يبلغ مائتي ألف مقسماً إلى أربعة أقسام ، قسمين للروم الميمنة والميسرة ، و القسمين اللذين في القلب هما جيش من الأعراب العملاء لهم وجيش من الأرمن.
كيف واجه ستة وثلاثون ألفاً من المسلمين مائتي ألف من الروم؟
تحرك هذا الجيش الكبير تحرك نحو الجنوب، وكانت خطة هرقل المتكررة هي أنه لا يواجه الجيوش الإسلامية عند المدن ، وإنما يسعى إلى تطويق الجيوش الإسلامية من الخلف بهذه الجيوش الكبيرة ، فحيث كانت الجيوش الإسلامية مفرقة فكانوا يضطرون إلى الانسحاب إلى الجنوب والتخلي عن المدن المفتوحة لكي يلتقوا معاً و يخوضوا هذه المعركة الكبرى.
وكان هذا الجيش أكبر جيش أرسلته الإمبراطورية البيزنطية حيث قيل في وصفه " إن ملك الروم قد جمع جمعاً لم يجمعه أحد من قبله لأحد من قبلنا " ، فانسحب جيش المسلمين وحدث بينهم نوع من التشاور إلى أي مدى ينسحبون ؟! وبالفعل تخلوا عن حِمص وتخلوا عن دمشق وعادوا مرة أخرى إلى منطقة اليرموك.
كان بعضهم يريد أن يعود إلى ما قبل هذا، وبعضهم لا يريد أن ينسحب ، لكن اجتماع أمراء الجيوش الإسلامية أفضى إلى القول بأنهم يجتمعون عند اليرموك.
ماذا فعل المسلمون في المدن التي سبق أن فتحوها أثناء انسحابهم ؟
المشهد الفريد الذي جرى في الفتوحات الإسلامية هو أن المسلمين وهم ينسحبون من هذه البلاد كانوا يعيدوا دفع الجزية التي أخذوها من المناطق المفتوحة، وكان هذا شيئاً لأول مرة تراه هذه الشعوب المغلوبة ، حتى أنَّ بعضهم قال : " والله لأنتم أحبُ إلينا من الروم وأقرب إلينا من الروم لا ردهم الله نصركم عليهم".
وكان المسلمون ينسحبون فيأتي الجيش الرومي فيُعيد احتلال هذه البلدان فيرى منهم الناس عكس ما كانوا يرون من المسلمين ، حتى إن المصادر البيزنطية تحكي عن غصب الأموال وأحياناً غصب الزوجات وقتل الناس كما تفعل أي جيوش مع المدنيين العُزل من السلاح.
التقى المسلمون مع الروم عند اليرموك ، وهذه المنطقة " اليرموك " هرقل كان قد أوصى بها القائد العام لجيش الروم حيث أوصاه بأن يجعل الروم في أرض واسعة ضيقة المخرج يريد أن يحصل على أكبر قدر من بسالة المقاتلين في قتال المسلمين ، فحين تكون الأرض ضيقة المخرج أو ضيقة المهرب لا يجد المقاتل إلا أن يقاتل، وبالفعل اختار فاهان موقعاً في غاية الدقة كما طلب هرقل، كان هذا الموقع على ضِفتيه نهر وخلفه نهر كذلك والمكان الوحيد المفتوح مكان ضيق وهو المكان الذي دخل منه المسلمون، فصار المسلمون أشبه بأنهم يحاصرون الروم، ولذلك سيدنا عمرو بن العاص عندما رأى هذا المشهد قال " أبشروا قد حوصرت الروم ووالله لا يأتي محصور بخير " .
وعلي الجانب الآخر كان الروم معتمدين على كثرتهم العددية لأن عدد المسلمين كان حوالي 33 ألف أو 36 ألف وبعض التقديرات تزيد وبعض التقديرات تقل لكن المرجح أنه كان في حدود الـ 36 ألف مقاتل .
ماهي خطة خالد بن الوليد في معركة اليرموك ؟
ذكاء خالد بن الوليد واعتماده على العامل النفسي في خطته لهزيمة الروم ..
كانت خطة سيدنا خالد بن الوليد خطة نفسية بالمقام الأول ، وكان لديه خطتين نفسيتين.. الخطة الأولى هي أنه يريد أن يصدم المقاتلين صدمة نفسية وذلك مُعتمد على أن المقاتلين الروم في حالة معنوية أفضل لما يرون من الانسحاب المتتالي للمسلمين إلى الجنوب ، فحدث في بداية التقاء الجيوش أن سلاح الفرسان عند المسلمين وسلاح الفرسان عند الروم تقاتلوا قتالاً قبل أن تشتبك الجيوش بكاملها ، في هذا القتال الذي كان بين سلاح الفرسان خرج فارس من الروم وكان فارساً مهيباً قوياً وعملاق فنادى من يُبارز ؟ فقال سيدنا خالد بن الوليد من يُبارزه ؟ فـ برز له بعضهم مثل عمرو بن الطفيل ابن عمر الدوسي و آخرون و لكن سيدنا خالد اختار له قيس ابن هُبيرة، وهو كذلك من فرسان العرب المشهورين ، فـ استطاع قيس ابن هبيرة أن يُسدد له ضربة واحدة فلقت هامتة ، وهذه الضربة التي تلقتها هامته كانت بمثابة الصدمة النفسية للجيش الرومي
ماذا كانت الخطة النفسية الأهم عند خالد بن الوليد ؟
لكي نتصور ميدان المعركة لنتصور الآتي : فروع نهر الأردن ثلاثة منها يحيط بالروم والمدخل الذي يتصل بالبر هو المدخل الذي فيه المسلمين وكان توزيع جيش المسلمين كالآتى : قلب وميمنة وميسرة ومن خلفهم معسكر المسلمين وفيه النساء .
وتوزيع جيش الروم على الآتي : روم في الميمنة والميسرة و أعراب وأرمن في المقدمة أى أربع كتائب كبيرة وخلفهم معسكر الروم ، وذكرنا أنَّ هِرقل كان يريد استبسال المقاتلين فكان مما فعل أن أنزلهم هذا المنزل ، والأمر الآخر أن الجنود المشاة الموجودين في الصفوف ربطهم بالسلاسل معاً بحيث لا يفكرون في الهرب من المعركة.
ولكن سيدنا خالد بن الوليد بمجرد أن رأى هذا الإعداد الكبير عرف أن فرسانه لا تصمد لفرسان العدو فـ في المعارك السابقة كان فرسان المسلمين يتفوقون على فرسان العدو وكانت خطة خالد بن الوليد في النصر في موقعة فحل وبيسان تعتمد على هذا التفوق ، لكن الأمر الآن الكثرة العددية كانت تحول بين قدرة الفرسان المسلمين على التصدي لـ فرسان الروم ، فسيدنا خالد بن الوليد أعد هذه الخطة التي تعتمد بالمقام الأول على الصدمة النفسية وهي كالآتي :
قسم سيدنا خالد فرسان المسلمين إلى قسمين قسم هو على رأسه والقسم الآخر على على رأسه قيس بن هُبيرة ، وقبل بداية المعركة طلب سيدنا خالد من أبي عُبيدة أن ينزل له عن القيادة العامة لأنه أراد أن يدير هو هذه الحرب فسيدنا أبو عبيدة تنازل ، والحقيقة بالطبع أنه لا سيدنا خالد كان يريد الإمارة ولا سيدنا أبو عبيدة كان يريد الإمارة ولكن النفوس المخلصة يهون عليها ما يصعب على الآخرين ، وتولى سيدنا خالد القيادة العامة فصارت الجيوش كلها تطيعه و أصبحت الجيوش الخمسة جيش واحد.
هذان القسمان من الفرسان جعلهما سيدنا خالد خلف المُشاة بحيث لا يكون للمسلمين فرسان متقدمين بل يكونوا في الخلف وذهب إلى النساء خلف المعسكر وسلحهنَّ بالخناجر والحجارة وقال لهم من رأيتموه منهزماً من المسلمين فاضربوا يعني أن يضربونه إما بالحجارة أو بالخناجر أو بالأعمدة " أعمدة الخيام "، ثم قال للمسلمين : " يا معشر المسلمين اليوم هو يوم الصبر " ، وشدد تشديداً كثيراً على أن المطلوب من المسلمين المُشاة الصبر لأنهم سـ يتلقون صدمة الفرسان الأولى من الروم واحتفظ بخيله وفرسانها خلف الجيش الإسلامي.
وفي فترة المفاوضات بين المسلمين وبين الروم حدث أمران مهمان .. الأمر الأول هو أن سفير اسمه جَرَجَة ولعل اسمه جورج في المصادر البيزنطية أسلم عندما رأى المسلمين و عبادتهم وصلاتهم تعرف على المسلمين فأسلم وانضم إلى المسلمين هذا سفير الروم ، أما الأمر الثاني أن بعض النصارى من العرب أسلموا وأتوا إلى خالد وأبي عبيدة ، فـ طلبوا منهم أن يكونوا في معسكر هم مع الروم ولكن يخبرونهم بما يكون من أنباء الروم وتم استخدامهم كعيون لجيش المسلمين عند الروم لمعرفة خطتهم .
بدأ الهجوم كالآتي : فرسان جيش الروم هجموا على ميمنة وميسرة المسلمين ولم يكن المطلوب من المسلمين إلا الصبر والثبات ، وبالفعل صبر المسلمون وصمدوا صموداً شديداً ولكن الواقع أنهم لم يكونوا يستطيعون الصمود كثيراً أمام هذا فقد جاء وصف الموقف في الروايات أن هجوم الروم كان كالسيل وكـ الليل فانهارت الميمنة والميسرة وصار بعض المسلمين ينسحبوا إلى الخلف ، وهنا جاء دور النساء المسلمات بأن يردونهم بالحجارة والخناجر وبـ عواميد الفسطاط أى الخِيام وأحياناً اشتركت النساء في صد الروم لأن الفرسان الروم كذلك بدأوا يندفعون هذه الاندفاعة حتى وصلوا إلى معسكر النساء.
فسيدنا خالد بن الوليد قامت خطته النفسية على تحقيق الصدمة النفسية من خلال أنه ينتظر الخلل الذي سيحدث في جيش الروم مع تقدم الفرسان وانفصالها عن المُشاة فيكون جيشهم خالي من الفرسان وعند هذه اللحظة التي يتباعد فيها بين الفرسان والمشاة يبدأ تحرُك فرسان المسلمين الذين لم يتحركوا منذ بداية اليوم حتى هاجمت الفرسان الروم الذين يهاجمون الميمنة والميسرة والذين كان قد وصل بعضهم إلى معسكر النساء في الخلف ففوجئ فرسان الروم بالقوة تظهر من جديد في المعركة بعدما ظنوا أنهم هزموا جيش المسلمين ووصلوا إلى معسكر النساء فوجئوا بخيل خالد وقيس بن هُبيره فدار قتال قضى فيه خالد مع هذه الصدمة والخلخلة على فرسان الروم وسمح لهم بالخروج .
لأن قد ذكرنا أن الطريقة الوحيدة للخروج هي الطريقة التي في خلف معسكر المسلمين وسمح لهم بالخروج، فهم مع هذه الصدمة المزلزلة انسحبوا وتركوا أرض المعركة ، ثم عادت فرسان المسلمين تهاجم جيش الروم الذي صار الآن خالياً من الفرسان فصار المشهد عند الروم فرسانهم تذهب ولا تعود ويظهر من جديد فرسان المسلمين.
ومع هذه الصدمة النفسية و هذه الهجمة بدأت عودة الميمنة والميسرة ثم أمر أبو عبيدة في القلب أن يهجم بقية المسلمين فصار هجوماً كاسحاً على الروم.
مع هذه الصدمة النفسية والزلزال غير المتوقع في ميدان المعركة بدأ جيش الروم يتراجع و كان هذا اليوم يوماً ضبابياً ثم كانت هذه اللحظة هي لحظة بداية الغروب فصاروا ينسحبون إلى الخلف وزاد من انسحابهم هؤلاء الجنود المسلسلين فصاروا يقعون في النهر، ولا يعرف الذي يأتي خلفهم أنهم يقعون في النهر وقُدر عدد الذين قتلوا في النهر في ذلك اليوم بمائة وعشرين ألفاً ، وثلاثين ألفاً من الفرسان قد انسحبوا من المعركة، وقضى المسلمون على بقيتهم وأسروا منهم أسرى كثير.
وبهذه المعركة الفاصلة التي سُحقت فيها القوة الكبرى الرومية، انتهى الوجود الرومي في الشام، وصار الشام بلداً من بلاد المسلمين.
ماهي الدروس المستفادة من معركة اليرموك ؟
في معركة اليرموك نظر جُندي إلى الروم وقال : "ما أكثر الروم وأقل المسلمين !" ، فنظر إليه خالد رضي الله عنه وقال بل قل : "ما أقل الروم وأكثر المسلمين " إنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالهزيمة ، هذه الكلمة التي قالها خالد رضي الله عنه هي من قواعد السياسة وقواعد المجتمعات ، وكما قال أبو مسلم الخرساني عندما سُئل من أقوى الناس ؟ فقال : كل قوم في إقبال دولتهم.
الذي يحدث أن الإنسان عندما تستمر انتصاراته يكون هناك روح معنوية عالية حتى لو كان الأضعف والأقل عدداً، وإذا استمرت هزائمه فإنه يكون في المحل الأسفل حتى وإن كان الأكثر عدداً وهذا كان حال الروم وحال المسلمين ، المسلمون قلة ولكنهم يستندون إلى انتصاراتهم "كثرة الجنود بالنصر "، والروم كثرة ولكنهم في معنويات منهارة " تقل الجنود بالهزيمة " .
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وكان الصحابة من بعده لا يسمحون بتكرار الهزيمة عليهم فبمجرد أن يحدث لهم شيء كنوع من الهزيمة أو ما شابه يتبعونه مباشرةً بما هو نصر ، كما حدث في غزوة أُحد ثم في حمراء الأسد ، كما حدث عندما تعثرت جيوشهم في حروب الردة أرسل إليها أبو بكر الإمداد حتى تنتصر ، وكذلك في معركة الجسر وهكذا. وذلك من أسرار قول النبي صلى الله عليه وسلم : " وأتبع السيئة الحسنة تمحها .. " فالإنسان إذا فشل أو هُزم أو ضعف أو غلبه الشيطان فأذنب عليه أن يتوب مباشرةً ، وإلا فإن الذنب يأتي بالذنب يأتي بالذنب.
وكذلك أيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إياكم ومُحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يُهلكنه " .