قصة البوسنة والهرسك منذ البداية
كان للعثمانيين نظرية في فتح القسطنطينية تعتمد على تطويق القسطنطينية من جهة الغرب .. وقد بدأ هذا منذ عهد أورخان بن عثمان و السلطان الثاني للدولة العثمانية الذي بدأ يتجه نحو الغرب ليبدأ في محاصرة القسطنطينية .
وفي عهد ابنه السلطان مراد الأول استطاع العثمانيون فتح أدرنة وهي إلى الغرب من القسطنطينية واتخذها عاصمة للدولة العثمانية، فصار جسم الدولة العثمانية موجود في الشرق، والجزء البسيط منها موجود في الغرب وفي أدرنة عاصمة الدولة العثمانية.
وقد تسبب الوجود العثماني في إرباك الخريطة الأوروبية وذلك لأن العثمانيين دخلوا على منطقة فيها البلغار والمجر والألبان و غيرهم من مناطق شرق أوروبا التي كانت بينها وبين القسطنطينية علاقات دينية بالمقام الأول باعتبارهم على المذهب الأرثوذوكسي، ثم كانت بينهم علاقات سياسية أيضاً فاحتاج العثمانيون إلى توطيد مكانهم في الجزء الغربي للدولة العثمانية وهو الجزء الأوروبي لكي يتفرغوا فيما بعد لـ فتح القسطنطينية.
هذا التوطيد والتثبيت احتاج حروباً مع الصرب والبلغار ، و مع القوات التي تنضم إليهم بدافع من البابوية لأن خطة العثمانيين لم تكن تخفى على أحد.
حارب العثمانيون كثيراً من الحروب لكن ما يهمنا فيها هو تلك الموقعة الشهيرة التي بدأ بها فتح البوسنة حيث انتصر السلطان مراد الأول على حلف أوروبي في معركة كوسوفو ، في هذه المعركة انتصر السلطان مراد الأول انتصاراً عظيماً وكان قد حكم لمدة ثلاثين عاماً ، وعند نهاية انتصاره خرج إليه جندي كان يتصنع أنه قتيل فطعن السلطان بخنجر مسموم ففاز السلطان بالحُسنيين النصر والشهادة معاً كان في السبعين من عمره.
هنا عند تلك اللحظة بدأ ينفتح الخط بين العثمانيين وبين مناطق البوسنة والهرسك وبدأ دخول الإسلام إلى مناطق البوسنة والهرسك وهذه هي المرحلة الأولى.
ثم فيما بعد تولى بن السلطان مراد الأول وهو بايزيد الصاعقة و كانت له أيضاً نشاطات ومعارك تُقربه من البوسنة، لكنها لم تكن معارك حاسمة وهنا يجب أنْ نفهم أنَّ ما قبل فتح القسطنطينية شيء وما بعد فتحها شيء آخر !! بمعنى : أن العثمانيون قبل فتح القسطنطينية لم يريدوا أكثر من تثبيت أوضاعهم لـ يتفرغوا للفتح ، أما بعد فتح القسطنطينية فهم يتفرغون لفتح شرق أوروبا.
بايزيد الصاعقة بدأ يوجه أنظاره ناحية القسطنطينية لكن فاجأته العاصفة المغولية الكبيرة القادمة والتي يتزعمها تيمورلنك والذي هاجم الأراضي التركية مما اضطُر بايزيد الصاعقة إلى فك الحصار عن القسطنطينية حيث دارت بينه وبين بايزيد معركة شهيرة عند أنقرة ، وللأسف هُزم فيها بايزيد وأُسر وكانت من أشد الضربات التي لاقتها الدولة العثمانية.
واحتاجت الدولة العثمانية بعد ذلك إلى عشر سنوات لكي يعيد ابن بايزيد واسمه محمد شلبي الدولة العثمانية إلى ما كانت عليه من قبل .
فنستطيع أن نقول أن كل المكاسب التي كسبها العثمانيون في الغرب تهددت مرة أخرى ، حيث العهود انتُقدت وبدأ ملوك الصرب والبلغار يستولون على ما كان من أملاك الدولة العثمانية واحتاجت الدولة العثمانية فيما بعد أن تبذل هذا الجهد مرة أخرى في الجزء الغربي.
وبالمقارنة نجد أنّ السلطان مراد الثاني بن محمد كانت له معركة أخرى أيضاً اسمها معركة كوسوفو ، وهي شبيهة بالمعركة الأولى، إلا أن إعادة إرجاع المكاسب العثمانية كان أسهل بطبيعة الحال من إعادة التأسيس من البداية.
فعند السلطان مراد الثاني وعند معركته كوسوفو بدأ يستعيد العثمانيون مكاسبهم في الغرب الأوروبي، خاصةً و أن السلطان مراد الثاني كان له نصر كبير حيث أخرج القوة الصربية والبلغارية من خريطة الصراع لأنه اجتمع عليه حلف أوروبي فاستطاع هزيمتهم ، وبالتالي نستطيع أن نقول أن السلطان مراد الثاني هو من أعاد وربما زاد مكاسب العثمانيين في ذلك الوقت في الجانب الغربي، وهو ما مهد لأمرين معاً .. مهد لفتح القسطنطينية أولاً، ثم مهد لانتشار الفتوحات في شرق أوروبا.
إذن عند نهاية عهد السلطان مراد الثاني ، كانت بعض الأجزاء الشرقية من البوسنة قد دخلت في نفوذ الدولة العثمانية وبدأ فيها تعيين الولاة ، لكن الفتح الكبير أتى عند مرحلتين أُخريين .. المرحلة الأولى هي مرحلة محمد الفاتح ، والمرحلة الثانية هي مرحلة سليمان القانوني.
المرحلة الأولى نجد فيها أن محمد الفاتح تفرغ لـ فتح القسطنطينية في البداية، فكانت حروبه مع ملك البوسنة هي حروب لإعادته إلى السيادة ، لكنه لم يتفرغ له إلا بعد أن أتم فتح القسطنطينية، فلما أتم فتح القسطنطينية و أغرت البابوية ملك البوسنة أن لا يدفع الجزية كما كان مقرراً في عهد السلطان مراد الثاني شن محمد الفاتح حرباً عليه واستطاع أن يقتحم عاصمته وأن يهزمه ويقتله.
حلم محمد الفاتح بعد فتحه للقسطنطينية وأي بلاد كانت طريقه إلى ذلك الحلم؟
وبالتالي كان فتح البوسنة منذ ذلك الوقت هو فتح يوضع مرة أخرى في ميزان محمد الفاتح وهو ما لا يعرفه كثير من الناس لأن فتحه لـ القسطنطينية غطى على بقية إنجازاته .
كان محمد الفاتح يُريد أن يجمع بين البِشارتين ، بِشارة فتح القسطنطينية و بِشارة فتح روما ، فهو بمجرد أن فتح القسطنطينية ودبر أمرها بدأ في شن الغارات الحربية الكبيرة المنظمة على القوى الأوروبية التي تفصل بينه وبين روما ، هذه القوى الغربية هي بالترتيب البلغار ثم الصرب ثم المجر.
وكانت قوة البلغار قد ضعُفت من كثرة حروب السلاطين السابقين لمحمد الفاتح وإن كان ما يزال منهم أمراء يتعاونون مع الصرب أحياناً ، ثم بذل محمد الفاتح جهوده الكبيرة في القضاء على قوة الصرب واستطاع فتحها لكن استعصت عليه بلغراد التي كانت البوابة الشرقية الحامية للمسيحية الأوروبية.
البلاد المنسية من فتوحات محمد الفاتح
وهناك أيضاً انجاز آخر و هو أنَّ محمد الفاتح بدأ يسلك إلى الجنوب في مساحة البوسنة والهرسك لكي يفتح كل هذه المناطق. ، وبمجرد أن فُتحت هذه المناطق وسيطر عليها محمد الفاتح بنفوذ سياسي وعسكري ، بدأ هنا يقترب من الولايات الإيطالية.
وفي ذلك الوقت كانت إيطاليا قوة كبيرة وقوة بحرية هائلة لأن بها المدن الكبرى مثل جنوة والبندقية لما فيها من النشاط التجاري الواسع .
وكانت التجارة العالمية متركزة في البحر المتوسط، فكان سادة التجار في الشرق هم المماليك لأنهم يملكون السواحل الجنوبية والشرقية مصر والشام ، وكان سادة التجارة الأوروبية هم الجمهوريات الإيطالية جنوة والبندقية وغيرهما، وكانت مدينتى جنوة والبندقية بطبيعة الحال هما البارزتان حيث كان لهما أساطيل وكانوا يستطيعون تمويل الحملات الصليبية.
ومن يعود إلى تاريخ تلك الفترة سيجد أن جنوة والبندقية والجمهوريات الإيطالية كانت من أوائل عوامل النهضة في التاريخ الأوروبي.
سيطر السلطان محمد الفاتح على البوسنة وبدأ يتخذ منها مركزاً إسلامياً متقدماً لفتح الجمهوريات الإيطالية ، واستطاع بالفعل أن يفتح عدداً من هذه الجمهوريات الإيطالية انطلاقا من البوسنة ، و بينما كان يعد للغزو على روما حتى أصيب بمرض مات فيه، ويعتقد بعض المؤرخين أنه قد دس إليه السم من طبيب إيطالي أظهر الإسلام واستطاع التوصل إلى السلطان.
وهكذا كانت البوسنة في عهد محمد الفاتح مركزاً حربياً متقدماً ، لكن هذه السيادة على البوسنة هي سيادة سياسية وعسكرية ، وليس هو دخول عام من البوسنويين في الإسلام كانت على نمط الرعايا العثمانيين.
أما الدخول من المسلمين في الإسلام فإنما جاء بعد فتح بلجراد لأن فتح بلجراد أزال القوة الصربية التي كانت موجودة تماماً، ثم انتقل سليمان القانوني بعد فتح بلجراد إلى أن يفتح بودابست وهي عاصمة المجر، ثم بدأ فيما بعد في حصار فيينا .
في ذلك الوقت الذي انهارت فيه العوائق التي بين العثمانيين وبين شعب البوسنة دخل الكثيرون من البوسنويين في دين الله أفواجاً، وصارت البوسنة مسلمة، وصار البوسنويون مجاهدون وترقوا في مراتب الدولة ، ولا تزال البوسنة حتى الآن دولة مسلمة ويغلب فيها الإسلام، فكل ذلك منسوب للسلاطين العثمانيين، لكن أبرزهم مراد الأول ومحمد الفاتح وسليمان القانوني.
فُتحت البوسنة قبل ستمائة عام، أي أن الفاتح وجيش الفاتحين الذين ماتوا منذ ستمائة عام لا يزالون حتى الآن يحسبون في ميزان حسناتهم. كل ما يقوم به المسلمون من عبادة لله وطاعة له حتى الآن.
لذلك نقول إن أثقل ميزان الناس هو ميزان الفاتحين، ففي ميزانهم توضع أعمال العباد ما داموا على الإسلام.
الأمر الثاني هو هذه الدولة العثمانية العظيمة .. الدولة التي حررت كل هذه الشعوب من الطغيان البيزنطي، ومن الطغيان الكاثوليكي أيضاً ، ونقلتهم من ظُلمات الكفر إلى نور الإسلام.