ما هي المدينة التي كانت ميزانا للدولة العثمانية؟
مدينة بلغراد عاصمة الصرب .. نستطيع أن نقول أنها كانت الميزان الصادق للدولة العثمانية ، حيث كانت الدولة العثمانية في حال من القوة فكانت بلغراد إما تابعة لها تبعية مباشرة أو تابعة لها تبعية النفوذ تدفع الجزية وتوالي الدولة العثمانية ، فإن كانت ضعيفة بدأت تخرج بلغراد ويخرج الصرب من نفوذ الدولة العثمانية، وأحيانًا يساهمون في التمردات التي تحصل عليها وبلجراد كذلك من المدن المهمة، لأنها هي الطريق إلى المجر ، و المجر هي الطريق إلى فيينا فيما بعد .
يعنى ذلك أن طموحات العثمانيين بعد القسطنطينية تتوقف عند ثلاث عقبات العقبة الأولى بلجراد، ثم العقبة الثانية بودابست عاصمة المجر ثم فيينا، وكان الأوروبيون يعرفون هذا ولذلك كان هناك قدر كبير من التحالف مع بلجراد لئلا تسقط بين يدي العثمانيين وقد حصلت أكثر من محاولة لفتح بلجراد لكن المحاولة الأولى كانت في عهد السلطان مراد الثاني.
بدايةً يجب أن نفهم أن العثمانيين أرادوا أن يفتحوا القسطنطينية بـ محاصرتها من الغرب، وبذلك تكون القسطنطينية محاصرة شرقاً وغرباُ من العثمانيين ، و منذ عهد أورخان عبر العثمانيون إلى الجانب الأوروبي واتخذوا عاصمتهم في أدرنة التي كانت إلى الغرب من القسطنطينية.
وجود العثمانيين في الغرب ومحاولة فصلهم بين القسطنطينية وبين باقي أوروبا الشرقية كان يثير مشكلات لأن دخول عنصر إسلامي على حلفاء الدولة البيزنطية حتى وإن كانوا مستقلين عنها بشكل فعلي، إلا أنهم مازالوا حلفاءها وهو دخول العنصر الإسلامي ، فاحتاج العثمانيون لتثبيت وضعهم في الجانب الأوروبي قبل أن يتفرغوا إلى القسطنطينية ، فتثبت وضعهم في الجانب الأوروبي كان يستلزم حروبا مع الصرب وحروبا مع اليونانيين وحروبا مع المجر وحروبا مع مناطق البوسنة والبلقان .
هذا الذي بدأه عدد من السلاطين العثمانيين ، لكن الآن في عهد السلطان مراد الثاني كان الوضع أن بلجراد توالي النفوذ العثماني بدفع الجزية ، لكن حصل أن أمير الصرب واحد من أمراء الصرب وهو اسمه برانكو فيتش هذا أعلن العصيان وتمرد على الدولة العثمانية، فجهز السلطان مراد الثاني له جيشاً لمواجهته ، وبداية ما شكل الجيش لمواجهة برانكوفيتش بدأ يتجمع حلف أوروبي شامل حلف أوروبي شامل اشترك فيه الصرب والمجر والبلغار والبدوية وجنود من إيطاليا وحتى جنود من ألمانيا وبعض التشيك ، حلف أوروبي كبير لم يكن يتوقعه السلطان مراد الثاني، وبالفعل هذا الحلف استطاع أن يوقع بالسلطان مراد الثاني ثلاث هزائم قوية اضطرته فيما بعد إلى توقيع اتفاقية هدنة لمدة عشر سنوات مع أمير المجر، إلا إن أمير المجر بدافع من البابوية نقض العهد وأرادوا مقاتلة الدولة العثمانية متوقعين أنها في هذه الحال هي في أضعف حال، وأنه يمكن لهذا الحلف الأوروبي إذا استمر أن يقضي تماما على هذه الدولة العثمانية ويعيد تطهير هذه المناطق التي سيطروا عليها.
حصلت معركة كبيرة عند مدينة تسمى فارنا هذه المعركة وعلى غير المتوقع استطاع فيها العثمانيون إنزال هزيمة قاسية بالحلف الأوروبي، حتى إن ملك المجر بنفسه الذي نقض العهد قتل وقتل مندوب البابوية الذي كان مشاركاً في هذه الحملة وتشتت الحلف الأوروبي واستعاد العثمانيون الذين لم يكونوا أيضا يتوقعون مثل هذا النصر العظيم استعادوا سيادتهم وسطوتهم في هذا المكان وعادت بلجراد ومناطق الصرب تدفع الجزية للسلطان مراد الثاني، وطبعا في ذلك الوقت لم يكونوا قد فتح القسطنطينية اكتفوا من الصرب بهذا للتفرغ لفتح القسطنطينية.
الفتح الذي لم يستطع محمد الفاتح بنفسه أن يقود شـرفـه
المحاولة الثانية كانت في عهد السلطان محمد الفاتح. السلطان محمد الفاتح بعدما فتح القسطنطينية فرغ ذهنه من هذا بدأ في التقدم إلى المناطق الشرقية في أوروبا، خصوصا وأنه في هذه اللحظة أحد المقاتلين المجريين الكاثوليكيين وهو من أبطالهم التاريخيين معروف وتشهد المصادر الإسلامية والمصادر الأوروبية ببسالته اسمه هُنياد كان العثمانيون قد أسروه في أحد المواقع، وأفرج عنه السلطان محمد الفاتح، و أخذ العهد عليه ألا يقاتل فوق أرض صربياً أبداً ، وفعلًا عاهده هذا العهد والمفترض أنه هو مجرى كاثوليكي فالمفترض أن ينزع إلى المجر، لكنه عندما ذهب نقض عهده مع السلطان وأثار تمرداً في الصرب وكان موجودا في بلغراد.
نهض إليه السلطان محمد الفاتح وحاصر بلغراد حصاراً شديداً استمر لستة أشهر، إلا أنه في الحقيقة ثبات وصمود واستبسال هُنياد أدى إلى أن يفشل محمد الفاتح في السيطرة على هذه المدينة، وأن يرفع عنها الحصار ويعود عنها، مكتفيا بأنها تدخل في حلفه من جديد وتدفع الجزية مات هُنياد من جراحات أصابته في هذه المعارك بعد عشرين يوم فقط . ولذلك فإنه صدق من قال : " النصر صبر ساعة ".
المدينة التي صمدت ستين عاما قبل أن تفتح و من الذي نال شرف هذا الفتح؟
هذه المدينة التي أعجزت السلطان مراد الثاني وهو من أعظم مستوطنين العثمانيين، ثم أعجزت السلطان محمد الفاتح بنفسه جاء موعد فتحها في عهد الحفيد الثاني للسلطان محمد الفاتح ، وهو أعظم سلاطين الدولة العثمانية السلطان سليمان القانوني وكانت البداية أيضًا من الصرب أنفسهم عندما رفضوا أن يدفعوا الجزية للسلطان سليمان ، فأرسل السلطان سليمان كعادته مبعوثه أو رسوله الرجل الذي يحوز الجزية في كل سنة، ففي هذه المرة رفض ملك الصرب أن يستقبله وأخذته القوات الصربية ولم يسمح له أصلًَا بدخول القصر، ثم أخذوه فقطعوا أذنه وجُذع أنفه وطافوا به في المدينة يشهرون به، وكذلك بعض الروايات تقول أنهم قتلوه.
فكان نقض العهد هذا هو السبب الذي جَيَشَ له السلطان سليمان القانوني جيشاً كبيراً ، هذا كان في سنة تسع مائة و سبعة وعشرين للهجرة .
و فتح بلجراد كان من الفتوح الرمضانية لأن بلغراد فُتحت في يوم خمسة وعشرين من رمضان سنة تسعمائة وسبعة وعشرين للهجرة تحت قصف هذا الجيش الذي جهزه السلطان سليمان القانوني وسار به من القسطنطينية التي أصبحت الآن عاصمة الدولة العثمانية بعد فتحها، وبناء على ذلك حاصرها حصارًا طويلاً وجرى حولها قتال عنيف ، لكن هذه المرة استسلمت المدينة أمام أعظم السلاطين العثمانيين السلطان سليمان القانوني.
المدينة التي كان فتحها مقدمة من فتوحات أوسع
صارت بلغراد منذ ذلك الوقت مركزاً حربياً متقدماً للعثمانيين في بلاد أوروبا ، لأنه هكذا صار الصرب قوم داخلين تحت السيادة العثمانية، وزال ما كانوا من قبل حاجزاً بين العثمانيين وبين المجر .
والمجر بطبيعتهم أيضاً كانوا حاجزاً بين العثمانيين وبين مركز المؤامرات و أقوى الإمبراطوريات حيث كانت إمبراطورية النمسا في ذلك الوقت أقوى الإمبراطوريات وكان يحكمها آل هابسبورغ ، وهي الصخرة التي وقفت أمام العثمانيين من التمدد إلى أوروبا.
وفي ذلك الوقت لم يكن هناك ممالك فرنسية كبرى أو إنجليزية أو ألمانية .
المهم أن سقوط بلغراد كان تحولاً تاريخياً كبيراً في سير حركة الفتح للدولة العثمانية ، وخاف المجريون منها وبالفعل ليست إلا أربع سنوات وبدأ السلطان سليمان القانوني في حصاد ثمار هذا الفتح فتحـه لـ بلجراد وتحويلها إلى قاعدة إسلامية متقدمة ، وبدأ في فتح المجر ، وعند فتح المجر دارت أشهر معركة في التاريخ العثماني وفي التاريخ الأوروبي في معاركه مع العثمانيين، وهي المعركة المشهورة بمعركة وادي موهاكس هذه كانت سنة 923 بعد خمس سنوات وشهرين بالضبط من فتح بلجراد لأنه في هذه المعركة أُبيد الجيش المجري تماماً.
كان السلطان سليمان صف جنوده وأعد كمينًا بحيث يتخلص من الفرسان المجريين، فيكشف الثغرة أمام الصف الثاني الذي فيه ملك المجر ثم حصدهم بالمدافع ، فهذه المعركة من أشهر المعارك اسمها وادي موهاكس وفيها أبيد جيش المجر تماماً، وانفتحت عاصمة بلاد المجر بودابست وعين عليها السلطان عثمان حاكماً من قبله ، حيث فضل أن تكون تحت نفوذه لا تحت سيادته المباشرة وعين عليها حاكم معروف أيضا في التاريخ اسمه زابوليا وفيما بعد عندما انقلب عليه المجريون جهز السلطان عثمان جيشاً آخر ورده به إلى السلطة، وكانت هذه مقدمة لـ حصار فيينا.
الخلاصة أن النصر صبر ساعة في فتح بلجراد .. لو أن محمد الفاتح انتظر فقط عشرين يوماً لكان قد مات هُنياد واستطاع أن يفتح المدينة
كذلك على الضفة الأخرى الصمود دائماً مثير للإعجاب ومُغير للخرائط وفاصل في حساب القوة ، هذا الفارس المجري هُنياد لو أنه استسلم قبل أن يمضي محمد الفاتح لكانت بلجراد قد فتحت قبل هذا الوقت بستين سنة، ولو أنها فتحت قبل هذا الوقت بستين سنة لكان أمام العثمانيين زمن أطول يفتحون فيه بودابست ويفتحون فيه فيما بعد فيينا وهم في عصر قوتهم.
فالواقع الذي يجب أن نتعلمه و نستخلصه أن الصمود دائما مؤثر وأن النصر صبر ساعة.
الخلاصة الأخرى هي الاعتراف بفضل هذه الدولة العثمانية التي نشرت الإسلام في هذه الأنحاء الواسعة من شرق أوروبا، ففضلا عما أنجزته الدولة العثمانية من الحفاظ على العالم العربي والإسلامي ومواجهتها للأساطير البرتغالية والإسبانية ومواجهتها لأوروبا، إلا أنها نشرت الإسلام في شرق أوروبا، وهي المناطق التي لم يكن ممكنا بدون هذه الدولة أن يصل إليها الإسلام .