يعتبر الرسم أو الفنون التشكيلية بصفة عامة من أقدم الإبداعات التي توصل إليها الإنسان على مر العصور فهو سبق اللغة و الكتابة و هو جاء لمعرفة العالم و التعبير عن الآراء حسيا . و هو أيضا كل شيء يؤخذ من طبيعة الواقع و يصاغ صياغة جديدة ،أي يشكل تشكيلا جديدا و هدا ما نطلق عليه كلمة التشكيل ،و التشكيلي هو الفنان المبدع الذي يقوم بصياغة الأشكال المحسوسة ،آخذا مفرداته من محيطه ،و لكل فنان رؤيته و نهجه لدى تعددت المعالجات بهده المواضيع ،مما اضطر الباحثون إلى تقسيم الأعمال الفنية إلى مجموعة من المدارس الفنية .
لقد تعددت المدارس في الفن التشكيلي و اختلفت في ما بنها في طريقة التعبير وإيصال الفكرة المراد إيصالها . سنركز في هدا الموضوع على المدرسة التجريدية باعتبارها مدرسة استقلت بذاتها وأعطت لنفسها طريقة خاصة في التعبير.
و كلمة ” تجريد ” تعني التخلص من كل آثار الواقع والارتباط به، فالجسم الكروي تجريد لعدد كبير من الأشكال التي تحمل هذا الطابع: كالتفاحة والشمس وكرة اللعب وما إلى ذلك، فالشكل الواحد قد يوحي بمعان متعددة، فيبدو للمشاهد أكثر ثراء؛
فالمدرسة التجريدية هي الاتجاه الذي يبتعد بالرسم عن تصوير أي شكل معروف ويهدف إلى تأليف لوني أو شكلي لا يعالج موضوعا ما ولا يستخدم سوى الألوان والخطوط , وهناك نوعان من التجريدية : نوع يسمى التجريدية التعبيرية وهناك التجريد الهندسي الذي ابتدعه “بيت موندريان “( 1872 – 1944) هدا الفنان التشكيلي الذي جعل من الأشكال الهندسية أساسا للتصميم سواء في العمارة أو النحت أو التصوير . وقد طبعت بعض تصميماته على النسيج منذ بضع سنوات؛ وهو من مواليد مدينة ” أميرسفوورت ” الهولندية بدأ ” بيت موندريان” دراسة الفن في تشرين الثاني من عام 1892في أكاديمية ” ريجكاس” للفنون في أمستردام. و تابع فيها حتى عام 1897. التقى موندريان 1912 بالفن التكعيبي في باريس و بدأ فورا (باعتناقه ) و ممارسته, حيث تأثر باتجاه ” بابلو بيكاسو” و “جورج براك” أكثر من إتجاهات” فرناند ليجر” و “روبرت ديلوناي” ؛ عندما تخرّج من الأكاديمية عمل فيها مدرّسا وفي بداياته، أظهر ميلاً لرسم المناظر الطبيعية بأسلوب قريب من الانطباعية. في عام 1914 يغادر موندريان باريس عائدا إلى وطنه لزيارة والده المريض؛ لكن نشوب الحرب وسيطرة النازية على فرنسا أعاق رجوعه إلى العاصمة الفرنسية. وتعرف في هولندا على الفنان ” ليو فان دويسبرغ ” L. van Doesburg ، وحولهما التف وقتذاك بعض الفنانين والمعماريين والشعراء الذين دعوا إلى ” فهم جديد للجمال” وذلك من خلال تقنين الوسائل الفنية. كما أنهم نادوا إلى عدم تمثيل الطبيعي والواقعي في الفن، مروجين بكثافة توظيف لغة الأشكال الهندسية الصرفة، التي تحضر فيها الخطوط الأفقية مع العمودية حضورا بليغا. أما في ما يخص الألوان فقد آثروا استخدامها بصيغتها الأولية، ولكن باقتصار محدد على: الأحمر والأزرق والأصفر؛ مع نبذ استخدامات الأسود والرمادي والأبيض. ويعود الفضل إلى “موندريان” في نحت مصطلح ” اللدائنية الجديدة” Neo-Plasticism وإسباغها على تلك المفاهيم التي كرستها دورية ” دي ستيل” De Stijl في الخطاب الفني وقتذاك ، هي التي بدأت تصدر في أكتوبر 1917، والتي لاحقا تسّمت تلك ” المجوعة الفنية” الطليعية باسمها.
وأثناء عودة موندريان إلى باريس في 1919، انهمك الفنان في الاشتغال على أسلوبه التجريدي الخاص، الذي يتجلى في توظيف تركيبات الخطوط الأفقية والعمودية على أرضية فاتحة أو ملونة. وفي سلسلة هذه اللوحات التي دعاها ” تكوين” ثمة سيادة واضحة لحضور المربع بأبعاد مختلفة، فضلا على حضور الخطوط العمودية والأفقية. وبحلول سنة 1925 يقطع “موندريان” صلته مع مجموعة ” دي ستيل” عندما أثار “دويسبرغ” مسألة اعتبار “الوتر” كعنصر أساسي في لغة المجموعة الفنية، معتبرا ذلك بمثابة ” ارتداد” عن الأفكار السابقة. أما هو، فقد انغمس لاحقا في الاشتغال على تكويناته المكررة التي اقتصرت على خطوط متعامدة مع استخدام أشكال هندسية نقية، والتي بها استحق اعتراف العالم الفني بمنجزه الإبداعي وقدراته في هذا المجال .
Style Piet Mondrian
كان “موندريان” يقول إن التجريد هو السبيل الوحيد للاقتراب من الحقيقة والعودة إلى الأصول والبدايات. لكن ذلك لا يتحقق ما لم يملك الرسّام قدرا عاليا من الوعي والحدس اللذين يمكّنانه من بلوغ أعلى درجات الإيقاع والتناغم ؛ ولازالت ليومنا هدا تعرض لوحات الفنان الهولندي بكبريات المتاحف العالمية